بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي
نحن نتحدث الآن عن المواطنة... وهي ليست مجرد موضوع للحديث, ولكنها بالنسبة لنا في هذه الأيام قضية وجود, نكون أو لا نكون, فالمواطنة في معناها البسيط المباشر هي أن نعيش معا في وطن مشترك, وبقدر ما يبدو ذلك أمرا بديهيا نمارسه بالفعل من قديم الزمان, بقدر ما نجد أن هذا الأمر لم يعد بديهيا, ولم يعد مضمونا, وإنما هو الآن مهدد بقوي مختلفة شرسة تشككنا في الأساس الذي تقوم عليه حياتنا وتنبع منه قدرتنا علي أن نعيش معا في وطن مشترك نحقق فيه ما نريد.ولكي يكون الحديث في هذه المسألة مجديا يجب أن نعترف أولا بأن المواطنة فكرة حديثة جاءتنا متأخرة, ثم لم تكد تجد لها مكانا عندنا حتي أهلمناها ونسيناها, وها هي الآن تتعرض للطعن والرفض والإنكار الصريح فتتعرض حياتنا الوطنية لخطر الحرب الأهلية الساخنة أو الباردة التي اشتعلت من قبل في لبنان والسودان, وها هي تطحن العراق طحنا, وتكشر عن أنيابها مرة أخري في لبنان.
المواطنة تتراجع في بلادنا والأساس الوطني الذي تقوم عليه الحياة الاجتماعية في العصور الحديثة أصبح عندنا ضعيفا متهافتا تسوخ فيه الأقدام, والسؤال إذن! لماذا كان هذا الأساس ضعيفا عندنا؟ ولماذا يعجز عن المقاومة وينهار من أول ضربة هنا وهناك؟
والإجابة هي أن ثقافتنا العربية الموروثة لا تولي فكرة الوطن اهتماما كافيا, ولا تعرف بالتالي فكرة المواطنة. هذا من ناحية, وقد تعرض وجودنا الوطني في العصر الحديث من ناحية أخري لانقلابات سياسية وفكرية هزت عقيدتنا الوطنية ونالت من شعورنا بالانتماء لبلادنا وباعدت بيننا وبين المواطنة وجعلتها فكرة بعيدة غامضة, ثم جاءت التطورات التي أصبحت فيها المواطنة لدي جماعات الإسلام السياسي فكرة مرفوضة تحاربها هذه الجماعات بكل سلاح لأنها تحارب كل ما جاءت به العصور الحديثة وتريد أن تعود بنا إلي الوراء ألف عام.
والثقافة العربية القديمة لا تهتم بالوطن ولا تعرف منه إلا معني الدار أو الموضع أو المحلة أو مسقط الرأس لأنها ثقافة بادية شاسعة لم تكن مواردها في العصور الماضية تسمح بقيام حياة مستقرة منظمة يرتبط فيها الفرد بالجماعة, وترتبط الجماعة بالأرض التي نشأت عليها وتحقق فيها وجودها, ثم جاء الإسلام لينظم حياة العرب وينشيء امبراطوريات دينية تتعدد فيها الاجناس والثقافات وترتبط فيما بينها برباط العقيدة لا برباط الوطن, فالدين هو الجنسية في الدولة الدينية, وعلي أساسه تتحدد العلاقات بين الدول وبين البشر. دار الإسلام ودار الحرب, مؤمنون وكفار. مسلمون وذميون.
ومع أن المصريين كانوا منذ فجر التاريخ أمة من الفلاحين الذين زرعوا الأرض وارتبطوا بها واستقروا فيها وعاشوا آلاف السنين, فقد اهتز فيهم معني المواطنة لأنهم فقدوا استقلالهم الوطني منذ وقت مبكر, وتحولوا إلي رعايا أو رقيق أرض لا حرية لهم ولا إرادة, والمواطنة ليست مجرد حياة مستقرة, ولكنها أيضا وعي, أي حرية وإرادة.
ثم ان الدول التي حكمت المصريين منذ القرن الرابع الميلادي الي اوائل القرن العشرين كانت دولا دينية مسيحية وإسلامية تأسست علي الدين وجعلته الرابطة الوحيدة التي يستغني بها المحكومون عن أي رابطة أخري.
والذي عرفته مصر وعرفة الشرق الإسلامي في العصور الماضية عرفته أوروبا وعرفه الغرب المسيحي في تلك العصور, سوي أن الأوروبيين والغربيين خاصة خرجوا علي سلطة الكنيسة في وقت مبكر وأنشأوا دولا قومية حلت محل الأمبراطوريات الدينية, كما خرجوا علي النظم الملكية المستبدة وأنشأوا نظما ديمقراطية تفصل بين الدين والدولة ويرتبط فيها ابناء الأمة برباط المواطنة التي لا تفرق بين جنس وجنس ولا بين عقيدة وعقيدة.
المواطنة هي أن نتفق رغم تعدد عقائدنا واختلاف آرائنا ومصالحنا علي أن نكون شركاء متساوين في وطن واحد, والمواطنة اذن تفترض فصل الدين عن الدولة وإلا فلن نكون متساوين لأن الدولة الدينية لابد أن تنحاز لأتباع الدين الذي تحكم باسمه, وفصل الدين عن الدولة يعني أن تكون الأمة هي مصدر السلطات, وليس رجال الدين الذين يزعمون أنهم يستمدون سلطتهم من الله, فالأمة هي صاحبة الحق وحدها في أن تسن القوانين, وتختار الحاكم وتراقبه وتحاسبه, والمواطنة إذن لها أساسان لا يغني أحدهما عن الآخر: الديمقراطية من ناحية, والعلمانية من ناحية أخري.
ولقد ازدهرت المواطنة في مصر بعد ثورة 1919 التي خرجت بها مصر من تبعيتها للانجليز بعد ان خرجت من تبعيتها للاتراك, أصبحت دولة وطنية مستقلة بعد ان كانت ولاية تابعة لسلطنة دينية متخلفة, وحصلت علي الدستور الذي فصل بين الدين والدولة, فالدين لله والوطن للجميع, والمصريون كلهم سواء, وهم وحدهم مصدر كل السلطات هكذا رأينا مكرم عبيد ومرقص حنا يتحدثان باسم المصريين أجمعين, كما يتحدث باسمهم سعد زغلول ومصطفي النحاس, ورأينا علي عبد الرازق يتصدي لشيوخ الأزهر الذين زينوا للملك فؤاد ان يعلن نفسه خليفة للمسلمين, ورأينا خالد محمد خالد يصيح في وجه الملك فاروق مواطنون لا رعايا وحين نقول ان المواطنة ازدهرت في مصر نعني ان الحرية ازدهرت في مصر, والثقافة ازدهرت في مصر, وأن المصريين استعادوا وعيهم بوجودهم وقدرتهم علي التفكيروالفعل والإبداع.
لكن المواطنة التي ازدهرت بالديمقراطية ذبلت بالنظام العسكري الذي اغتصب السلطة, وألغي الدستور, واسقط مصر من اسم الدولة في الخمسينيات والستينيات, ثم تحالف مع الجماعات الدينية في السبعينيات, وغير من أجلها المادة الثانية في الدستور, وتركها تتسلل الي مؤسسات الدولة التي اصبحت تتعاطف مع هذه الجماعات وتتبني كلامها وتنشره علي الناس, وأمس ذهبت الي دار نشر قومية أسأل عن كتب خالد محمد خالد من هنا نبدأ ومواطنون لا رعايا والديمقراطية أبدا فوجدت مؤلفاته الدينية وحدها, ولم اجد كتابا واحدا من هذه الكتب, والخطة الهادفة لتديين المجتمع كله علي قدم وساق, تديين اللغة, والأفكار,والأزياء, والاسماء, والعلوم, والقوانين والمباني, ووسائل المواصلات... ولا يبقي بعد ذلك إلا أن تثب هذه الجماعات إلي قمة السلطة بعد أن استولت علي قاعدتها!
وهناك من يظن أن المواطنة تهم المسيحيين وحدهم, لأنها تحميهم من الاضطهاد, والحقيقة أن المواطنة تهم المصريين جميعا المسلمين قبل المسيحيين, لأنها إن كانت تحمي المسيحيينمن الاضطهاد فهي تحمي المسلمين من الانقراض!